Wednesday, September 23, 2009

رمضان نقطة الانطلاق

جميعنا يستقبل رمضان بالبشر والسرور.. وننتوي الجد والاجتهاد في الاستزادة من الأعمال الصالحة.. فننطلق إلى الطاعات وأعمال البر هنا وهناك.. وتمتليء المساجد بالمصلين في صلاة التراويح والتهجد.. ويتسابق الجميع في عدد الختمات.. وتنهمر الدموع وترتفع الأكف وتعلو الأصوات للتأمين على دعاء الإمام: "اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.. اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً.. اللهم وحد كلمتهم وألف بين قلوبهم.. وانصرهم على عدوك وعدوهم.. اللهم من أراد الاسلام والمسلمين بسوء فرد كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره".. اللهم آمين..
وتمضي الأيام المعدودات.. ويرتحل الشهر الفضيل.. وتعود أمة الإسلام إلى سابق عهدها.. وإلى يومنا هذا لم نَرَ المسلمين قد اتحدوا أوعادوا لدينهم أو ساد الحب بين قلوبهم ولم يـُـنصروا على عدو الله وعدوهم.. والسؤال الآن.. نتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة والدعاء في شهره الفضيل.. إذاً لماذا لا يستجيب دعاءنا؟؟
اسأل نفسك.. هل تتعامل مع رمضان كما أراد الله منك؟؟ لقد صدقنا الله وعده أنه يستجيب لنا إذا دعونا.. لكنه كَتَبَ أيضا أنه (لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد:11.. وما تعيشه أمة الإسلام اليوم من التأخر والهوان على جميع الأمم سببه اهمالها الطويل وبُعدها عن أسباب العزة وعدم الأخذ بأسباب القوة..
لقد أهدانا الله رمضان.. فرصة لتجديد الشحنة الإيمانية لأرواحنا.. وفرصة كبيرة لوضع أساس التغير نحو الأفضل.. والتغير سنة كونية لابد أن تحدث.. إما للأفضل أو للأسوأ..
ومن رمضان نخرج بفوائد عديدة تعيننا للمُضي قدماً في طريق الحق إذا وقفنا على معانيها وفهمناها فهماً صحيحاً.. والأهم طبقنا ما فهمنا.. فعلى قدر العمل تأتي النتيجة..
ماذا قدمنا في رمضان؟؟ وما الذي تعلمناه؟؟ وكيف نتعهد الثمرة حتى تنمو وتزدهر؟؟
لوعرفنا فوائد ما نقدمه في رمضان وكيف نقدمه وتعهدناها في رمضان وتابعناها من بعده حققنا ما أراده الله واستفدنا من هديته..
في معادلة بسيطة فإن عملنا في رمضان:
الامتناع عن المباح في نهار رمضان + الاستزادة من القرآن + التقرب إلى الله بالطاعات + تعلم ضبط النفس = تحقيق معنى التقوى وهو الغاية من رمضان
الامتناع عن رغباتنا الحلال في نهار رمضان..
وهنا نتعلم معنى الانقياد التام لأوامر الله قبل معرفة حكمة الأمر.. (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا) الأحزاب:36.. الانقياد لله في كل أمر هو فرض.. فلا تأخذ أمراً وتترك آخر بحجة أنك غير مقتنع أو أنه غير مهم.. واحذر أن تكون ممن ضلوا ضلالاً بعيداً..
ثم إن الصيام تربية للنفس وتدريب لها على ترك الحلال لله.. فإذا عُرِضَ عليها الحرام كانت على اجتنابه أقدر.. ثم إذا دعا الداعي إلى الجهاد في سبيل الله كانت عليه أقدر من غيرها..
فالصيام ليس مبرراً للتكاسل عن الدراسة أو العمل.. وليس مبرراً لكثرة النوم.. إن هذا من أنفسنا الضعيفة.. لا تقل أذهب للعمل متأخراً لأني صائم.. أو أترك العمل مبكراً لأني صائم.. ولا تقل أنام وقتاً طويلاً لأني صائم..
ولنا في حياة أشرف الخلق وصحابته من بعده ومن تبعهم بإحسان مثالٌ يُحتذى به.. فكثيرٌ من جهاد المسلمين والمعارك التي حققوا فيها النصر والعزة.. احتل موقعه مع مجاهدة النفس في أيام شهر رمضان.. ففي السنة الثانية للهجرة فـُـرِضَ الصيام.. وفي السابع عشر منه كانت معركة بدر فاصلة بين الحق والباطل..
فتح مكة كان في 10 رمضان 8هـ..
معركة القادسية كانت في رمضان 15هـ..
فتح بلاد الأندلس كان في رمضان 92هـ..
ومعركة عين جالوت كانت في رمضان 685هـ..
موقعة حطين كانت في رمضان 584هـ..
فإذا كانت هذه الانتصارات كانت في شهر الصيام.. فلا عُذر لك على القعود والخمول بحجة أنك صائم.. وإذا كان اتقان العمل في غير رمضان هو واجب.. فعليك الحرص على اتقان العمل وأنت صائم..
+ الاستزادة من قراءة القرآن..
نسعى في رمضان للاستزادة من الحسنات بقراءة القرآن وختمه مرة أو عدة مرات.. وهذا لا بأس فيه.. لكن الأصل في قراءة القرآن قراءته بتدبر.. ألا يقوم الحبيب بقراءة رساله محبوبه مرات ومرات يفهم معانيها ويحفظ كلماتها ويُنفذ ما يطلبه ويكررها على نفسه كلما اشتاقت نفسه إلى الحبيب.. ولله المثل الأعلى.. فالقرآن رسالة الله إلينا فلنقرأة بفهم.. ففيه منهج حياتنا وصلاح أمر دنيانا وآخرتنا.. هو سبب للرفعة قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" مسلم..
فيه أوامر ونواهي.. فيه وصف للجنان وكل ما يقرب منها.. ووصف للنيران وكل ما يؤدي إليها.. فيه قصص من قبلنا نتعلم ونعتبر منها لحياتنا.. وفيه قوانين لصلاح أمور دنيانا.. وما يصلح أمر الفرد والمجتمع..
انظر للحبيب صلى الله عليه وسلم وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: "كان خلقه القرآن" الألباني.. في عبادته.. في كلامه.. وأفعاله.. ومعاملاته.. وفي شأنه كله صلى الله عليه وسلم..
فكما تخصص وقتاً للعمل.. ووقتاً للأهل.. وقتاً للمتعة.. ووقتاً لزيارة الأصحاب.. فلتجعل لنفسك من القرآن نصيباً.. تقرأ كلماته بتأني.. تفهم ما صَعُبَ عليك فهمه.. تقف على أحكامه وتطبقها.. تقرأ في قـَـصص القرآن وتأخذ العبرة.. تتعلم تلاوتَهُ تِلاوَة صحيحة.. تحفظ منه.. تـُـحبه وتـُـسارع لتنفيذ ما جاء فيه لأنه رسالة الله إليك.. لا تضعه على الرف يشكو التراب إلى رمضان التالي.. فما لهذا أَرسـَـل الله إلينا القرآن.. ثم ما أدراكِ يا نفس أتدركين رمضان التالي أم لا.. هيا أَحِب القرآن واجعله منهاجاً لحياتك.. وابشر يا صاحب القرآن بقول الله عز وجل: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً" الإسراء:9..
+ التقرب إلى الله بالطاعات
طاعاتك في رمضان كانت كثيرة؟؟ صلاة في أول الوقت.. في جماعة.. نوافل.. قيام ليل.. قراءة قرآن.. حضور مجالس للعلم.. صدقات.. دعوات.. من علامات قبول الحسنة الحسنة التي تتبعها.. فإذا رأيت من نفسك إقبالا على الطاعة فأبشر بالقبول بإذن الله لكن ضَع نصب عينك قول الله تعالى: (والذين وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) المؤمنون:60..
واحذر أن تركن إلى النوم والعودة إلى التقصير.. وتنكث الوعود التي عاهدت الله عليها بأن تثبت على الطاعة وتستمر في علاقتك مع ربك.. والأسوأ من ذلك أن تظن أن واجبك هو العبادة في رمضان فقط.. ويكفي ما اجتهدته في رمضان حتى رمضان الذي يليه!! أليس رب رمضان هو رب باقي العام!! ألم يقل الله عز وجل في كتابه (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الحجر:99 "اليقين:الموت".. لا تكن كالذين قال فيهم السلف: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان"..
ولتعرف أن للنفس إقبال وإدبار.. فقد تجد أن عبادتك قد قلت عن رمضان فتظن أنك من المفرطين فتترك ما أنت عليه.. فاحذر الشيطان.. وتمسك بالقليل وداوم عليه وتَلـَـمس إقبالك على الطاعة واستزد.. علمنا المصطفي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن لكل عملٍ شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك" أي لكل عمل يعمله المرء نشاط وإقبال عليه ثم كل نشطة لها فتور واسترخاء.. الألباني..
+ تعلم ضبط النفس
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه شرابه" البخاري.. وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة (أي: وقاية وحماية) فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم" البخاري ومسلم..
مضى الشهر وتعلمت فيه كظم الغيظ وتمالك النفس وتصبّرت في معاملاتك مع الناس.. سعيت إلى الصدق والأمانة وقول الحق.. تجنبت قول الزور والغيبة والنميمة والسيء من الأخلاق.. وبالتكرار أصبحت عادة.. عاهد نفسك ألّا تعود إلى سرعة الغضب.. وقلة الصبر.. وسرعة الاختناق ممن حولك.. وألا تعود إلى الكذب والفبركة والخيانة وسيئات الأخلاق.. الآن أنت أقدر على ذلك فلا تعد كسابق عهدك..
أعجبتني نصيحة إحدى الداعيات لبناتها: ليس المهم أن تخرجي من رمضان بكثير من قيام الليل والبكاء من خشية الله فقط.. لأن هذه الأمور تستطيعين تحقيقها في أي وقت.. لكن الأهم من ذلك أن تخرجي من رمضان وقد تمكنت من القضاء على مرض قلبي ألم بك فأنت على ذلك أقدر من أي وقت آخر..
فأمراض القلوب تتعلق بالقلب الواحدة تلو الأخرى حتى تقتله.. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا: "إنَّ العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقل قلبه، وإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو الرَّان الذي ذكر الله (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) المطففين:14" الترمذي..
ألزم نفسك بقول الحق.. بالأمانة.. بالصدق.. تابع التحلي بخلق الإسلام خُلقاً بعد خُلق.. وتأس بالحبيب صلى الله عليه وسلم في أخلاقه.. ولا تقل: يعني أنا اللي هغير الكون.. الناس كلها بتعمل كده.. لما الناس تبطل هبطل أنا كمان.. أنت وحدك من سيقف بين يدي الله يحاسبك على عملك أنت.. فان أحسنت فزت وإن أسأت فلا تلومن إلا نفسك.. تعلّم أن تقوم بالصواب ولو كنت وحدك فقط.. اسمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا ألا تظلموا" الأباني
= تحقيق معنى التقوى
يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة:183.. إن الغاية من الصيام هي تحقيق معنى التقوى.. فربُنا الرحمن يرجو أن تحقق قيمة التقوى ثمرة صيامك.. والتقوى في كلمات بسيطة أن يجدك الله حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك.. إذاً اسأل نفسك واصدقها فإن صدقتها اليوم وقومتها نجوت يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم..
راقب نفسك واعرف كم بلغت نسبه التقوى في قلبك.. قولك.. معاملاتك.. عباداتك.. وستعرف كم حققت من ثمرة رمضان..
قبل الختام
في صلاتنا ندعو كثيرا لإخواننا المسلمين في بلاد الإسلام.. وندعو للنصر والتمكين لهذا الدين.. فلنكن حجر أساس في بناء أمة الإسلام من جديد.. وبداية الطريق تبدأ بأن نحس أننا بالفعل إخوة في العقيدة.. وأننا كالجسد الواحد لابد لنا أن نشعر بما يعاني منه المسلمين.. ونحن في مرحلة زمنية يعاني فيها الكثير من المسلمين.. في فلسطين وما يحدث من تضييق ونهب للأراضي وتقتيل وأسر وانتهاك لجميع الحرمات.. في الصين وما يحدث من اضطهاد للمسلمين ومحاولة لمحو العقيدة من نفوسهم بالقمع والقتل وتفريق الأسر حتى وصل الأمر إلى ارسال الأطفال ليتربوا في أسر غير مسلمة.. في أفغانستان وما يحدث من تقتيل وذبح للمسلمين.. وكذلك باكستان.. والأصعب على النفس اقتتال الإخوة في البلد الواحد كما يحدث في الصومال واليمن والسودان..
والنُصرة ليست بالدعاء فقط.. بل بالاحساس بما يحدث لهم ومتابعة أخبارهم.. واتخاذ الخطوات لمساندتهم بما نقدر عليه.. بالمال.. بالمقاطعة.. بنشر القضية.. وبالعودة إلى الدين الحق.. ففد كتب الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن النصر والتمكين يتنزل على الإنسان عندما يعمل وليس عندما يدعو ويقعد ينتظر النصر..
وختاما..
في رمضان نعمل على التوازن بين غذاء الروح وغذاء القلب فنـُـكثر من العبادات ونترك المباحات بعض الوقت.. نتعهد أنفسنا بالتربية وننقاد لأمر الله.. نـُـمضي ثلاثون يوماً من تنظيم الوقت وتغير للعادات.. وتكرار لهذا التغير وهذا التنظيم.. موعدٌ للسحور والفطور وموعدٌ للقرآن والقيام والعمل أو الدراسة والأسرة والأصدقاء.. ألسنا بهذا قد وضعنا حجر الأساس للتغير؟؟ يقول علماء البرمجة النفسية أننا بحاجة إلى تكرار السلوك من 6 إلى 12 مرة حتى نعتاد عليه.. ونحن قد كررناه 30 يوماً متتالية..
بعد هذه التربية لنفسك في رمضان.. واعتيادك على مبدأ التغير والتنظيم.. قف مع نفسك بصراحة.. اعرف خيرها وشرها.. واسع لتطويرها وتهذيبها.. تخيّر خصلة ترغب في تغيرها أو عادة تتمنى اكتسابها وابدأ.. فإن لم تكن قد بدأت في رمضان فأنت الآن أقوى وأقدر على التغير عما قبل الشهر الفضيل.. جاهد نفسك واسع نحو الأفضل..
رمضان بداية وليس نهاية.. ورب رمضان هو رب جميع العام طـَـلَبَ منا العمل من أجله طوال العام.. فلا تجعل رمضان لله.. وباقي العام للنفس وشهواتها والجري الحثيث من أجل الدنيا وحدها.. (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) النحل:92..
والله المستعان ولا تنسوني من صالح دعائكم
لينة مصطفى
1 شوال 1430- 20-09-2009

No comments:

Post a Comment